أنا من سنين لم أره
لكن شيئاً ظل في قلبي زماناَ يذكره
عمي فرج، رجل بسيط الحال
لم يعرف من الأيام شيئا غير صمت المتعبين
كنا إذا اشتدت بنا رياح الشك بين يديه نلتمس اليقين
كنا إذا غابت خيوط الشمس عن عينيه
شيء في جوانحنا يضل ويستكين
كنا إذا حامت على الأيام أسراب
من اليأس الجسور نراه كنز الحالمين
كم كان يمسك ذقنه البيضاء في ألم
وينظر في حقول القمح
والفئران تسكر من دماء الكادحين
عمي فرج...يوما تقلب فوق ظهر الحزن
أخرج صفحة صفراء إعلانا بطول الأرض
يطلب في بلاد النفط بعض العاملين
همس الحزين وقال في ألم : أسافر؟ كيف يالله
أحتمل البعاد عن البنية والبنين؟
لم لا أحج.. فهل أموت ولا أرى خير البرية أجمعين
لم لا أسافر.. كلها أوطاننا
ولأننا في الهم شرق.. بيننا نسب ودين
لكنه وطني الذي أدمى فؤادي من سنين
ما عاد يذكرني نساني
كل شيء فيك يا مصر الحبيبة سوف ينسى بعد حين
أنا لست أول عاشق نسيته هذي الأرض كم نسيت ألوف العاشقين
عمي فرج.. قد حان ميعاد الرجوع إلى الوطن
الكل يصرخ فوق أضواء السفينة
كلما اقتربت خيوط الضوء عاودنا الشجن
أهواك يا وطني
فلا الأحزان أنستني هواك ولا الزمن
عمي فرج..
وضع القميص على يديه وصاح: يا أحباب لا تتعجبوا
إني أشم عبير ماء النيل فوق الباخرة
هيا احملوا عيني على كفي
أكاد الآن ألمح كل مئذنة تطوف على رحاب القاهرة
هيا احملوني كي أرى وجه الوطن
دوت وراء الأفق فرقعة أطاحت بالقلوب المستكينة
والماء يفتح ألف باب والظلام يدق أرجاء السفينة
غاصت جموع العائدين تناثرت في الليل صيحات حزينة
عمي فرج .. قد قام يصرخ تحت أشلاء السفينة
رجل عجوز في خريف العمر من منكم يعينه
رجل عجوز .. آه يا وطني
أمد يدي نحوك ثم يقطعها الظلام
وأظل أصرخ فيك: أنقذنا حرام
وتسابق الموت الجبان
واسودت الدنيا وقام الموت يروي قصة البسطاء
في زمن التخاذل والتنطع والهوان
وسحابة الموت الرهيب تلف أرجاء المكان
عمي فرج.. بين الضحايا كان يغمض عينه
والموت يحفر قبره بين الشعاب
وعلى يديه تطل مسبحة ويهمس في عتاب
الآن يا وطني أعود إليك توصد في عيوني كل باب
لم ضقت يا وطني بنا
قد كان حلمي أن يزول الهم عني عند بابك
قد كان حلمي أن أرى قبري على أعتابك
الملح كفنني وكان الموج أرحم من عذابك
ورجعت كي أرتاح يوما في رحابك
وبخلت يا وطني بقبر يحتويني في ترابك
فبخلت يوما بالسكن
والآن تبخل بالكفن
ماذا أصابك يا وطن؟؟؟
فاروق جويدة